( يوم للحب والحلم والغضب )
لا وقت اليوم لسلق البيض، أو كي الملابس، والعصافير الصغيرة لديها ما يكفي من حبوب " البلكم "، ومادمنا لا نعلم بعد أن "السكري " قد بدأ في العمل علي نحو مفاجئ وغير منتظر وبغير تاريخ عائلي، فلا بأس بقطعة من فطائر العسل وكوب من الشاي الأحمر وسيجارة وحيدة، أيضاً ملابس الأمس تصلح ليوم آخر .. الآلة العصبية قد أدت عملها بكفاءة هذه الليلة، ونجحت علي نحو فائق خطة البرمجة.. " قليل من الوقت سيكون كافياً لإفاقة العقل وغسل الأعين من إرهاق ساعات المتابعة الطويلة علي شاشات التلفاز، وانتشال الهيكل العظمي والجهاز العضلي من عنت الأمس وموازنة "الأدرينالين " .. أستطيع رغم ساعتين فقط من نوم قلق أن أشعر بكامل قوتي، ولا وقت للدوار أو آلام المعدة.. الهواء يبدو أكثر امتلاءً بالأوكسجين، وضربات القلب السريعة عليها أن تهدأ.. نفس عميييييق من هواء أكثر خفة في صباح مختلف تستطيع به الآن أن تقاوم "الفوبيا"، ولا حاجة الآن لمزيد من المهدئات، فالأحلام تستطيع أكثر مما يستطيعه " الزناكس " و " الكالميبام "، فهي مع بعض الإرادة وقوة العزم لا تسبب أية أعراض جانبية سيئة، ولا تجلب النوم، كما أنها لا تؤدي علي المدى الطويل لفقدان الطموح أو ثبط الهمم.. لن يلتفت اليوم لكونه علي مقربة من نهاية الشهر الثاني من أشهر الشتاء، ذلك الفصل الأكثر ثقلا علي نفسه وجسده.. هذا المحب للدفء.. وللمرة الأولي انقضت ليلته دون أن تعبِّر أنامله عن تذمرها من برودة الطقس، أو يشاكسه اختلال الدورة الدموية بانقباضات القلب العنيفة أو وخزات الصدر التي ما لبثت أن ترافق ليله منذ عدة أعوام لتذكره بالزحف المعاند لشيخوخة ظل عصياً عليها بروحه الشابة وجسده المخادع لأعوامه التسعة والأربعين .. كل شيء مختلف اليوم .. كل شيء أروع.. أروع؟ .. نعم أروع، رغم كل ما يجتاح الخواطر ويملأ النفوس من قلق ..علامات الاستفهام التي تتبادلها الأعين تحمل معها إجابات ضمنية عن أسئلة معلقة منذ عقود مضت وسنوات طوال .. تلك الإشارات التي لم تدركها جيدا سوى النفوس المنذورة للحلم .. ثمة شيء مختلف اليوم وعلينا المضي بلا تردد .. اختزلت درجات السلم نفسها هذه المرة في قفزات ثلاث، وأظهرت عضلات الساقين خفة مدهشة، وكوعل يخطر من قمة الجبل التهمت قدماه نتوءات وحفر الدرجات المهشمة بسلاسة بارعة،وعلي نحو مفارق اقتربت بلاطات الشارع من فجوة الباب المفتوح علي مصراعيه بغير عادة.. آااااااااااه يا حرية. بخفة عهدها في نفسه ساعات الفرح النادرة في حياته ولحظات الإثارة، كان يقطع الطريق المؤدي إلي "شارع الملك" بين همهمات المارة والواقفين علي النواصي محملقين في "مانشتات" الصحف .. لم يكن حاجز الخوف قد انكسر بكامله في نفوس قاطني الحواري الضيقة والأزقة الحبيسة بين عشرات النوافذ الوطيئة المفتوحة علي غرف أسلمت نفسها منذ زمن بعيد للفقر والبؤس .. لم تستطع الروائح الغريبة التي تجتاح أنفه وهو يمر من أمام أبواب منازل " عزبة مكاوي" لتخلق بداخله مزيج من الشعور بالانقباض والتقزز وتشعره بالكآبة – التي ربما كانت مزيج من روائح أنواع بائسة من الطبخ وعرق الأجساد المكدسة بالغرف الضيقة وروائح ما خلفته الحيوانات بين أكوام من الأثاث المتهالك والفراش الرث - أن تفعل فعلها هذه المرة، بل زادته حماساً للمضي في طريقه ودعمت بداخله إصراراً قوياً للحاق بالمسيرة التي سوف تتحرك بعد قليل من ميدان " الحدائق" لتمر بشارع " مصر والسودان" كي تلتقي بحشود المصلين عند جامع " كشك" جامع " ملك مصر والسودان سابقاً" لتنطلق بعد ذلك عبر نفق " دير الملاك" إلي "شارع رمسيس" قاصدة " ميدان التحرير "، ولم تنل من نفسه عيون" بلطجية" العزبة الذين يعرفهم اسماً أو رسما والذين يترددون بين العمل كلصوص و قاطعي طريق أو بائعي مخدرات يبيعون البانجو والحشيش والبرشام لسائقي الميكروباصات، ومتسربي المدارس، والصنايعية الذين ينفق بعضهم أيام تعطله أو ما تبقى من أيام عملهم وربما نصف ما يكسبون علي مقاهي وغرز الحي أو نواصي شوارعه المهملة، أو العمل كمرشدين لرجال الشرطة ومباحث الحي، عندما حملقت فيه بنظرات توحي بالغضب والتربص وهو يمر من أمامهم وكأنهم يعرفون مقصده، بل أثارت بداخله قدراً أكبر من الغضب والتحدي. عندما اقتربت خطواته من الشارع الكبير- الذي رافقه سنوات عمره منذ أن كان طفلا صغيرا، والذي ترك بداخله الكثير من الذكريات حيث كان متنزهه وأقرانه في أيام الأعياد، ومتنفسه في ليالي الملل، ومعبره خلال الحي الذي يجمع بين البيوت الفقيرة وعشش الطين والصفيح علي أطرافه، وقصور وفيلات زمن لم يره وتاريخ لم يعشه ولكن قرأه في الكتب وشاهده علي شاشات السينما والتلفزيون، وتاريخ آخر أكثر قرباً استطاع تلمسه بوعي ناشئ لصبي تجره خلفها يد الأب نحو مسيرات ضخمة من ألاف الرجال المتشحين بالحزن والنسوة المتشحات بالسواد تنهال من عيونهم الدموع وهم يرددون نشيداً حزينا " الوداع يا حبيب الملايين .. الوداع " .. الشارع نفسه الذي شاهده بعد ذلك وهو يحمل بين جنباته صرخات الغضب لآلاف من البشر المهرولين في جماعات تهتف " اسمع مني يا ساكن القصر.. الفقير ساكن في القبر" ..الشارع الذي كان ممره للحياة حيث تقلع كل الباصات لتنطلق نحو أرجاء الدنيا التي يعرفها.. وهو أيضا الشارع الذي حمل خطوات الحب الأولي والأخيرة أيضا .. وبينما كانت أقدامه تقطع أخر مسافة متبقية بينه وبين جامع الملك وهو يمر من أمام " دير الملاك "، تعالت في الهواء أصوات المآذن التي لم تدعو في ذلك اليوم فقط للصلاة.. كانت الأصوات تحمل رسالة أخرى تضمنتها نبرة المؤذنين واستشعرها المصلين الذين كانت تزاحم في نفوسهم خشوعهم لله ورحلتهم إليه حالة أخرى من التوق لرحلة الخشوع للوطن. " تعطلت لغة الكلام " .. لا هواتف نقالة ولا إنترنت .. قررت السلطات تعطيل كل سبل التواصل بين الناس في ذلك اليوم، ظناً منها أن ذلك سيعوق تجمعهم في مواجهة القهر، ولكن يا للعجب! كل الرفقاء يعرف بعضهم أماكن البعض، رغم كونهم في غالب الأمر لم يكن يعرف أحداً منهم أحد..ثمة صوت غير مسموع كان يشدهم في اتجاه مكان واحد يحمل في ذلك اليوم رائحة هواء من نوع مختلف، ومعان ظلت قابعة هناك بين أرجاء الميدان لأعوام كثيرة مضت، كان يستشعرها دائما وطوال سنوات عمره كلما مر من هناك.. ثمة سر كان يخبأه الميدان في بلاطات الممرات وجدران المباني .. هاتف يأتي من مستقبل لم يكن يعرف متي سيجيء علي وجه اليقين، ولكنه كان مملوءا به ويؤمن كل الإيمان بأنه آت حتما.. سر خبأته حوائط البنايات المشرفة علي الميدان التي بدت له دائما وكأنها تحرسه وتدخره لمهمة قادمة، سر كان يشتم رائحته في الهواء الذي يعبر خلاله بدءاً من " كوبري قصر النيل" مرورا بمبني " جامعة الدول" و" عمر مكرم" و" مجمع التحرير" والبنايات علي ناصية "طلعت حرب" و" محمد محمود " وشامبليون"، كثيرا ما تهامس عنه مع أجداده القابعين تحت قبة المبني ذي اللون الأرجواني للمتحف المصري، ولم تكن تتركه حتى يعبر ميدان " عبد المنعم رياض".. ربما الصوت نفسه الذي كان يهمس له طوال الوقت وهو يعبر الميدان هو ما سمعته الملايين عندما علا فجأة في ذلك اليوم ليسمعه لكل الناس ويجمعهم فيه،ذلك الذي يسمي " التحرير" منادياً عليهم ربما بالكلمة نفسها الذي رددها دوما علي مسمعه " حرية ". مازالت الاتصالات مقطوعة، والفتاة التي قررت أن ترافقه اليوم – وربما لباقي سنوات العمر إن بقيت له سنوات – تنتظره الآن في ميدان " رمسيس " .. كانا قد رتبا ذلك معاً في الليلة الماضية، ولم يتحسبا قط لانغلاق الأثير، ولم يكن يعرف أين تحديداً ولا كيف وسط هذه الجموع الهادرة التي تتحرك صوب الميدان سيستطيع أن يلتقط ملامح الخلاسية السمراء التي شاءت لها الأقدار أن تكون رفيقته في أجمل مشاوير العمر وأجلها مشهدا وأكثرها إثارة، والتي دون شك كانت ترقب الطريق بقلق بالغ ولا تعرف ما الذي يجب عليها فعله ولا ما تستطيعه حيال غياب صوت صاحبها خلف صمت الهاتف .. كان يعرف وبيقين كامل- ذلك اليقين الذي كان يصاحب نفسه في ذلك اليوم وظل طيلة أيام مقبلة يملأه حيال كل ما يحدث وكأنه قد اطّلع علي الغيب أو كأنه قد تلقى تقريرا من المستقبل – كان يعرف أنه سيلقاها هناك، وأنهما لن يخطئا الطريق لبعضهما ولن يضيع أحدهما من الآخر في زحمة الناس، وأنهما سيترافقان في رحلة البحث عن الذات والبحث عن الوطن. " يا أهالينا انضموا لينا" .. كانت المسيرة التي عبرت النفق إلي شارع رمسيس تهتف وهي تتحرك في الواقفين في شرفات المنازل والمارين بالباصات علي امتداد الشارع تحثهم على النزول ، فينضم إليها العشرات كل عدة أمتار حتى حجبت رؤوس الناس بمرور الوقت الرؤية عن الشارع الطويل ، فقط أعلام تهتز بشدة وأصوات تهدر بالهتاف. علي مشارف ميدان "رمسيس" ومع اقتراب وصول المسيرة انطلقت قنابل الغاز باتجاه المتظاهرين .. عشرات من كرات الدخان تتطاير في الهواء، وما هي إلا دقائق حتى غطت سحب الدخان تماما المكان كله وغابت الرؤية، ثم بدأ دوي الرصاص. الميدان مغلق بالجنود، والعربات المصفحة تقف في كل مكان، والمتظاهرون علي رأس الشارع اضطروا تحت وطأة النار للتفرق والهرب للشوارع الجانبية.. وقفت أنا والبعض علي مبعدة من الميدان نراقب الأمر لنبحث لنا عن مسلك .. لابد لي أولا أن أجد رفيقتي التي تنتظرني لاشك، لأصحبها في رحلتها الأولي لهذه المساحة الجديدة من العالم ، مساحة لا تعرفها جيدا ولم تنشغل بها من قبل، ستدخلها للمرة الأولي معي مدفوعة مثلي بقوة الحب والحلم. - هي الثورة يا هند. - نعم هي الثورة يا ناصر.. لم أكن أعرفها من قبل ولا تخيلت أني سأشهدها. - كانت حلمي طيلة العمر ولكني كنت أخشي ألا أشهدها. - سنكون أجمل يا حبيبي. - نعم سنكون أجمل يا حبيبتي. كانت الدموع تملئ عيوننا دهشة وانفعالا .. فرحة واشتعالاً، عندما التقت كفانا بعدما عدونا باتجاه بعضنا لما لمحتها هناك ولمحتني وأنا أفتش عنها، بعد أن استطعت اختراق الحصار والوصول إليها باتجاهي يمينا عبر محطات القطارات حتى وصلت إلي ناصية "أحمد حلمي" ثم اتجهت ناحية عمارة "رمسيس"، وعلي بعد أمتار كانت واقفة هناك ترقب مجيئي وتراقب الميدان. لابد من الوصول إلي " ميدان التحرير".. لا شيء سوف يثنينا عن ذلك.. ولن ترغمنا حشود الأمن بكل عصيهم وبنادقهم ومدرعاتهم علي التراجع ، أو تعوقنا عن مواصلة السير بتجاه الحلم . غافلنا العسكر وعبرنا الطريق لشارع "الجمهورية" وكطائرين التصق جناحاهما كنا نقطع الشوارع ممسكين بأيدي بعضنا وكأننا نطير بالفعل .. ثمة حلم ينتظرنا هناك، لا يوقفنا سوى ما نصادفه من مسيرات في أحد شوارع وسط البلد فنسير معها ثم نتركها لغيرها، أو معارك للثوار مع جنود الأمن تقطع أحد الشوارع فنساند الثوار مرة بالهتاف ومرة بالحجارة أو حتى زجاجات الخل وحبات البصل التي كنا نحصل عليها من شرفات المنازل طوال الوقت لتقي أعينهم من شرور الغاز أو حتى زجاجات الماء التي تساعد في ري الظمأ، أو نشاركهم بمساعدة المصابين الذين يشكلون طريدة سهلة لوحوش الأمن. أخيرا نحن علي مشارف الميدان .. كان قد مر ما يقارب الأربع ساعات قضيناها في المسيرات والمعارك الجانبية والفرار من العسكر حتى أصبحنا أمام مشهد التحرير .. في البداية شعرت ببعض الانقباض .. كان الميدان خاليا تقريبا من البشر، وكانت المدرعات وصفوف الجنود تحاصر المكان من كل اتجاه، والدخان يملء المكان عن أخره و بعض السيارات مبعثرة هنا وهناك تشتعل فيها النيران .. علي أطراف الميدان كانت تدور بعض المعارك مع الأمن في بعض الأماكن ، شباب يلقون الحجارة وجنود يردون عليهم بالغاز والخرطوش والرصاص الحي، في أماكن أخري تجمعات لبعض المتظاهرين يهتفون في مواجهة الجنود .. كانت الأصوات تصل أقوى من ناحية " عبد المنعم رياض" .. عبرنا الميدان والتحقنا بمظاهرة عند " هيلتون رمسيس" .. كانت الفتاة السمراء التي امتلأت ملامحها بالقوة والتحدي تقف وسط المتظاهرين وتقود الهتاف ضد الظلم وضد الفساد " مصر يا أم ..ولادك أهم .. أنت اللحم وهما الدم .. طول العمر يشيلوا الهم.. ويا حكومة ما بتهتم .. بالروح بالدم نفديك يا وطن ..ارحل يا نظام التعذيب .. بكرة يا سلطة الثورة تقوم.. مش حنشيل علي الكتف هموم .. ثورة ثورة حتى النصر .. ثورة في كل شوارع مصر" ،وتبادل معها بعض الشباب قيادة الغضب في مواجهة النظام ومواجهة الأمن الذي حاصر المتظاهرين في حركات من الكر والفر أمطرهم خلالها بزغات من قنابل الغاز التي تخصص بعض الشباب في الإمساك بها وإعادة إلقائها علي الجنود ، والتي في واحدة منها أطلقت حوالي ثلاثين قنبلة خلال أقل من دقيقتين في محاولة لتفريق الجمع حولت المكان كله لسحابة كثيفة من الدخان أصبت خلالها بحالة من الاختناق فحملني بعض الشباب إلي إحدى الجراجات في الممر المؤدي إلي مبني " ماسبيرو" ليعالجونني بمناديل الخل ، بينما كانت هند تبحث عني في بقايا الغاز. قرابة الساعة السادسة ظهرت عربات الجيش المصفحة تسير في اتجاه مبني الإذاعة والتليفزيون .. اتجهت ورفيقتي باتجاه المبني ، ونحن نقترب من هناك سمعنا أصوات الرصاص تدوي بقوة وكثرة في الميدان الذي كان قد اشتدت فيه المعارك بين الأمن والثوار، وفوجئنا بالجنود يهرعون ناحية السيارات الموجودة بمحاذاة الكورنيش بسرعة كبيرة وبأعداد هائلة، ظننا أول الأمر أنهم يتحركون صوب معركة أخري مع الثوار في مكان ما، وفجأة خلت جميع شوارع القاهرة وميادينها بما فيها "ميدان التحرير" من جنود الأمن .. وقتها تأكدنا أننا كسبنا المعركة وأن الشعب علي وشك أن يسقط النظام. عادت جموع الناس إلي " ميدان التحرير" لتملأه بالأعلام والهتافات وهي أشد قوة و إصراراً علي تحقيق الحلم .. كان لابد لي أن أتركهم قليلا حتى أوصل رفيقتي لأقرب مكان لبيتها .. عاودنا السير علي طريق الكورنيش، ولكن هذه المرة بدون وجود سيارات وجنود .. فقط مع وجود أعلام النصر وأجساد تهرول بين مزيج من الفرح والترقب .. والنيل يرسل مزيدا من هوائه العليل برائحة ومذاق جديدين ، وأنا ورفيقتي نقطع الطريق كعصفورين يطيران علي الأسفلت ويدي في يدها ينظر أحدنا للأخر ونبتسم، ونغني معاً مزيجاً من أغاني
الحب والحلم والغضب
القاهرة ناصر البدري