شيء من جغرافيا اللغة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا يدري لماذا شعر بهذا القدر من الخيبة، ولا لماذا اجتاح نفسه ذلك الشعور العميق بالجهل عندما لم يستطع فهم ما كان يدور بينه وبين المرآة التي اعتقد أنها أمه . في عربة المترو كان الطفل في الثالثة من عمره تقريباً .. يصرخ بشدة في وجه المرآة التي أحاطت جسده الصغير بذراعها .. يتحدث بغضب امتزج بالبكاء وبسرعة ربما للتعبير عن رغبة ما أو عن رفضه لشيء ما ، وهي تسمع له بصبر واهتمام وبعيون لامعة وصوت رتيب ترد عليه في هدوء وهي تربت علي كفه الصغير ليعاود هو الحديث بغضب أقل وتودد أكتر. هكذا مضى الأمر بينهما .. يتحدث ويستمع ويعترض وترد بهذه الرطانة التي لم يفهم منها شيئاً. لم تكن العربية قطعاً، ولم تكن الإنجليزية التي يعرف منها ما يجعله يستطيع تميزها جيدا ولو لم يفهم ما يدور من خلالها تماما.. أيضا لم تكن الفرنسية التي تغنيه طريقة نطقها والقليل من مفرداتها التي يعرفها عن عدم قدرته علي تميزها من بين اللغات .. هي إذا لغة أخرى ، ربما كانت الإيطالية الأسبانية أو البرتغالية أو غيرها من اللغات التي لا يعرف منها شيئا، ومن الطبيعي في هذه الحالة ألا يفهم ما يدور بين الطفل وأمه من حديث ، ولكن لماذا انفجر داخله كل هذا الغضب داخله، ولماذا شعر بكل هذا الإحساس بالعجز والجهل والخيبة؟!!. أطفال كثيرون يصرخون في وجوه أمهاتهم كل لحظة من حوله ولا ينتبه لما يقولون، ولا يهتم لما يدور بينهم، ولا يعتني بماذا يريدون ولا بكيف أو بماذا ترد الأمهات، كل هذا وهم يتحدثون بلغته التي يعرفها جيدا، وبقليل من الاكتراث كان يمكنه متابعة آلاف الحوارات من ذلك النوع، لماذا إذا اختلف الأمر هذه المرة، ولماذا كانت حاجته لفهم ما يدور هذه المرة كبيرا لهذا الحد ، وما هي حاجته لذلك في حقيقة الأمر؟!!. بدون شك لم يكن الأمر ليتجاوز كونه لا يريد الذهاب إلي مكان ما ، وربما العكس هو يريد الذهاب إلي مكان بعينه، أو انه يريد الحصول علي مشروب يحبه، أو وجبة من محل معين، أو لعله يريدها أن تشتري له حذاءَ من نوع خاص أو لعبة رآها مع احد أقرانه، أو ربما لم يتعد الأمر رغبته في الذهاب إلي المنزل، ومن المؤكد أيضا أنها قد طالبته بالهدوء قليلا والتحدث بصوت منخفض أكثر أو الكف عن البكاء، أو أنها وعدته بأنها سوف تحضر له ما يريد، أو أنهما سيعودان سريعا للبيت، إذا لماذا أراد هو أن يعرف من حوارهما، ولماذا يريد أن يعرف في الأساس؟!. تذكر في هذه اللحظة تلك الأوقات التي قضاها أمام أقفاص الحمام والعصافير يتابع باهتمام صوت الهديل والزقزقات في محاولة فهم ما يدور بينها ومعرفة كيف تتواصل هذه الكائنات مع بعضها البعض وكيف يتفاهم أفرادها فيما بينهم.. أيضا تذكر تلك الأوقات التي أنفقها في محادثة القطط والكلاب في حوش منزلهم في محاولة الوصول للغة مشتركة بينه وبينها، غير انه لا يذكر كونه أحس بمثل هذا الغضب عندما كان يفشل في ذلك, وان كان قد ارقه بعض الشيء هذا الفشل، وكان يشعر أن ثمة حاجزاَ يحول بينه وبين تلك العوالم المدهشة لهذه الكائنات التي أحبها دائماً، لكنه لم يشعر بينه وبينها بنفس حجم الهوة التي شعر بها الآن ولم يشعر أيضا بنفس القدر من الغربة.