وكان الموت لعبًة جميلة
" الساعات الأخيرة في حياة صانع البهجة"
نص مهدي إلي روح الأديب الراحل سيد عبد الخالق
نص مهدي إلي روح الأديب الراحل سيد عبد الخالق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يعد ما يستحق" .. والأحلام التي زاحمتنا في الحجرة الصغيرة .. الحجرة الضيقة ذات الأمتار الثلاثة والسقف الواطئ, والتي - والله- ما اكتشفت ضيقها سوى الآن فقط .. الحجرة التي حوت اللعبة كاملة منذ صخب البدايات وحتى أرق النهاية .. النهاية التي فاجأتنا بقوة رغم كل شيء , وربما فاجأتك أيضًا .. تلك الأحلام التي تناثر شذاها في وجوه الجميلات اللاتي عبرن من " حسن العيسوي " إلي مواعيدٍ مقبلةٍ لا محالة, بينما كنت أتقصاها في عينيك العميقتين وأنت ذاهب في بداياتٍ أروع لقصتك الجديدة .. الأحلام التي حلّقت حولنا في المقاهي من " توتة " إلي " شيهان" ومازالت روائحها هناك , والتي صاحبتنا من " طومان باي " إلي " سكة الوايلي " .. الأحلام التي طيرتها في شوارع منتصف الليل ومازالت ترفرف هناك فوق مياه النيل, تاركةً زغباً ناعماً علي حجارة المقاعد في رصيف الكورنيش .. الأحلام التي لم تكن سوي أن تحيى كما ينبغي لجميلٍ مثلك , لابد لها الآن أن تستريح وتفتش لنفسها بعيداً عنك - أنت يا صاحبها – عن مستودع ومستقر. " لم يعد ما يستحق" .. قلتها لي وأنا أرتب رحلتك الأخيرة .. أيقينا كنت تعرف أن ماكينتين للحلاقة فقط سيكفيان؟ وأنه لا داعي لمناديل أكثر؟ .. أنت إذا فاعلها أيها الماكر .. لقد رتبت كل شيء في غفلةٍ منا, ولمهارةٍ فائقة, دعوتنا لمشاركتك كل شيء بغفلتنا تلك .. أنهيت روايتك الوحيدة كما أسميتها .. صالحت زوجتك, وقلت لنا ما قلت عن طفلكما .. تخلصت من خطاياك الجميلة والتي لإيمان منك بحرية الخطأ – أو لأنانية شديدة – أهديتنا بعضًا منها , ثم أوثقت تلك العلاقة التي ما زلنا نصارع أنفسنا ليقين حولها. لماذا إذا خادعتني بابتسامةٍ مراوغة وحديث عن ما بعد الجراحة؟ , لماذا تركتني ألهث خلف أكياس الدم وزجاجات " الألبومين" .. أعدو بين عيادات الأطباء ومكاتب الصحة, وأطارد الممرضات البذيئات سليطات اللسان بين عنابر المرضى وغرف النوبتجية؟ أفقط لأعرف أنهن بالليل يصبحن أجمل ؟ وأن لهن أسراراً مخبأة في علب الشاش ومشاجب الحقن, وحكايات تنبض بالليل في العنابر المظلمة؟ لماذا وأنت تقصد ما تقصد؟ أكنت تخشى عليَّ أنا من موتك؟ ثم كيف فعلت كل هذا البهاء ومت هكذا جميلاً وصحيحاً ومتقداً كما لم نكن نحن الباقين إلي الآن ؟ فهل فعلتها من أجلي؟ أكنت تؤمن بقلبي إلي هذا الحد؟ وهل كنت تعرف أن موتك هذا سيمنحني دقيقتين من كف حبيبتي هناك بجوار النهر؟ .. آهٍ يا صاح لو كنت تقصد أكثر من ذلك .. إذاً فقد ضعت سدى .. إنهما "دقيقتان" لا أكثر .. دقيقتان فقط وعلي سبيل المواساة .. هذا كل ما استطاعت أن تمنحه الشفقة للقلب المفعم بخسارته, ولم أكن مهيئاً وقتها لمعاركة العشق في دكنة الأسى. أعرف أنك حانق عليّ, وأني خذلتك تماماً, لقد راقبتك هناك علي الضفة الأخرى للنهر , رأيت "غمزة" عينك التي ذكرتني بمزحتك يوم أن حكيت لك عنها .. " أموت وأشوفكم سوا " .. وها أنت قد مت . فهل فعلتها حقاً من أجلي؟ .. رأيتك وأنت تلوّح لنا مبتسماً .. سائراً في اتجاه " المريديان" أحد أماكنك الأثيرة حيث قطعة لنا من العمر وصورتان مطبوعتان ما زالتا علي صفحة الماء , بينما أنا ضائع في تلك المسافة الواسعة - المسافة التي تعرفها تماماً , مابين الشفقة والحب- ممزقاً بين وجهيكما الذاهبين بعيداً عني, هكذا لكي يصبح الفقد مضاعفاً ومكتملاً, ولتكونا هكذا " دقيقتان فقط " .. دقيقتان قادرتان علي جعل كل الوقت الذي سيأتي بعدهما مكرساً بكامله لهذا الفقد . فهل تراهما يساويان كل هذا الغياب؟ لا يا صديق .. لقد أخطأت .. وربما لو بقيت لوجدنا مخرجاً أكثر رحمة. لماذا إذاً سأكتب القصائد " المغرضة " .. أتذكر تلك التسمية التي أضحكتك كثيراً؟.. القصائد التي أعجبتك كثيراً ربما أكثر منها. لمن سأقرأ إذاً وأنا أحاول الهروب بعينين مرتبكتين وارتعاشة قلب, وأنت تضحك منتشياً ومتكئاً بظهرك إلي الوراء قائلاً لي " استمر أيها الرومانسي العنيد .. أنا فرحٌ فيك .. أخيراً قررت أن تعطي قلبك؟ " نعم يا سيد أخيراً , وأخيراً ضاع القلب وضاع الحلم وماتت القصائد وذهبت أنت بعيداً وبقيت أنا وحدي .. وحيداً كما لم أكن في أي وقت. لماذا تأخرت هكذا يا أخي وتركتني واقفا كل هذا الوقت علي باب غرفة الجراحة؟. ياااااه يا سيد, ألن تكف يا أخي عن عادتك السيئة هذه في " ضرب المواعيد" ؟ ألم تقل لي أنني المستثنى الوحيد من حيلتك هذه في جعل الجميع بانتظارك أطول وقت, بينما ترتب أنت أشيائك علي مهلٍ وتنتقي أي شخص سوف تذهب إليه أخيراً؟ , وربما تتخذ قرارك في اللحظة الأخيرة بأنك لن تبرح غرفتك وتبقي لتكمل ذلك المقطع الذي استعصي بالأمس.. آااااه يا صاحبي لا بأس فأنا أعرف أن الهواتف قد تفاجئنا في اللحظات الأخيرة بما يجب أن يحتمله الأصدقاء. أي جميلةٍ تلك التي تركتني هنا من أجلها كل هذا الوقت وذهبت إليها بجلبابك الأبيض هذا, بلا حلةٍ منمقة ورابطة عنق جديدة وأوراقٍ ملونة علي غير عادتك؟ وهل صدقت أخيراً أن ثمة أماكن لا نحتاج ونحن ذاهبون إليها سوى لأرواحنا فقط؟ لا يا سيد أنت كنت علي حق فأنا من تعلم الآن أن مكاناً واحداً فقط هو الذي نستطيع أن نذهب إليه هكذا. ألن تأتي إذا؟ وماذا كانت تعني إشارتك لي وأنت ذاهب هكذا خلفهم كطفل أخذوه ليختن؟.. إشارتك التي لم تكن تعني بالنسبة لي غير " انتظرني قليلاً ". ماذا عليّ أن أقول الآن لعمر؟ عمر يا سيد .. أتذكره؟ .. الولد الذي يحمل ملامح كهل .. عمر الذي ابتلاه الله بخمس عشرة مصيبة في بدنه .. يسألني عنك بدهشة, وهو ينتظرك الآن لكي تدبج له "العريظة" التي ستمكنه من الذهاب إلي لندن لكي يستبدل كل أعضائه الفاسدة بأعضاءٍ جديدة, صالحة لممارسة الحياة والعشق. والبنات اللاتي يقفن هناك بالمزهريات في الركن الذي اقتطعه من العنبر الكئيب القذر لتحوله إلي كرنفال بهيج أدهش المرضى والأطباء والزائرين علي حد سواء . والأصدقاء الذين جمعتهم حولك في احتفاليةٍ رائعةٍ بالموت. الأصدقاء الذين ربما يقتل بعضهم بعضاً فور رحيلك, فقط لكونك لم تعد بينهم حيث كنت بمزحةٍ صغيرة تحول معاركهم لنكات يتبادلونها . إنهم ينتظرونك الآن علي المقهى الملاصق لمستشفي أحمد ماهر لتحدثهم لليلة كاملة قبل موتك الوشيك عن روايتك الجديدة , وذلك الهامشي الذي يكتب المتن كاملاً ويراقب الحياة دون أن يدخلها, وعن رؤيتك لكيف تكون الترجمة ذلك الفعل الجمالي بقدر كونها أداة "برجماتية" دون أن تخل بشرطها الأخلاقي من خلال الإخلاص لذلك النص الفريد الذي لا يخون صاحبيه في مصالحة فذة بين لغتين لا تفهم إحداهما الأخرى , وعن كتّابك " الكوزموبوليتانيين" الذين شغلتك كثيراً ثقافتهم المركبة متعددة الروافد, والتي تقف كتاباتهم بقدميها في آسيا وأفريقيا بينما تطل برؤوسها هناك في أمريكا و أوروربا , أو العكس تماماً, فيكتبون عن أوطانٍ كانت تعرفهم جيداً وربما لا يعرفونها تماماً وبلغةٍ تجهلهم تماماً وإن كانوا يعرفونها جيداً. تحدثهم عن ماذا يفعل الآن الاستعراضيون علي يمين " الباست مودرنيزم " , وعن كيف ترى الشعر في زمن الرواية . أو تحكي لهم عن كيف رأيت " نادين " للمرة الأولي بينما أنت خارج لتوك من " أورجازم ماريان " التي لم تكن سوى "فينوس" جديدة .. " فينوس " في طبعة شعبية – علي حد تعبيرك – أنتجتها " القصيرين " خصيصاً من أجلك . إنهم ينتظرونك هناك ربما فقط ليتأكدوا من أن " الكنسر " ليس أشد خطورة من " الأنفلونزا " , وأن الموت أضعف كثيراً من إرادة شخص عاشق للحياة حتى لو كان علي هذا القدر من النحافة, فيذهبون إلي بيوتهم هادئي البال ليحبوا زوجاتهم أكثر أو يبغضوهن أكثر, فيخططون لقصائد جديدة و خيانات جديدة. فهل ستأتي الآن يا سيد أم أذهب أنا لأنتظرك هناك؟ .. حيث كنا دائماً .. وحدنا .. نضع اللغة معاً في مصفاة الجمال – الجمال الذي كان صنعتك الوحيدة – لننتج معاً نصوصاً أرقى, ونمارس إنسانيتنا في هدوء ودونما صخب. هناك حيث بدأنا معاً كل شيء, وانتهينا منه أيضاً .. في الحجرة الصغيرة .. حجرتنا .. ربما
ستطيع أن أكتب قصيدةً من أجلك , أو ربما مرثيةً لنا
ناصر البدري
مجلة أدب ونقد: العدد 228 أغسطس 2004
مجلة أدب ونقد: العدد 228 أغسطس 2004