"عن " الحدائق و غنا المجاذيب
قراءة في رواية " غنا المجاذيب " للروائية منال السيد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اعتقد أنها المرة الأولى التي أقرأ فيها كتاباً مرتين في يوم واحد ، هذا ما فعلته في ذات اليوم الذي وصلتني فيه رواية "غنا المجاذيب " من الأديبة الرائعة القاصة والروائية منال السيد .. حفظتها تقريباً .. كل شخوصها وأماكنها وأحداثها..عالم صغير لكنه مكتوب بلغة جميلة .. رهيفة .. رشيقة وناعمة .. لغة حنونة ودافئة أحيانا و موجعة أحيانا .. لكنها في كل الحالات تصف جيداً .. الشخصيات مرسومة بشكل رائع لدرجة أنني كنت أراها وكأني أعيش معها . ربما يكونوا محبوسين في حياتهم وهمومهم الخاصة لكنهم يلخصون كثيرا من الناس الذين نعرفهم والحكايات اللي عشناها .. الحب والفقد والغربة والحرمان والضعف.. الناس الذين يأتون لكي يخطفوا الدنيا من بقية الناس والناس الذين يأتون ويذهبون دون أن يشعر بهم أحد .. الناس الذين تصنع أصواتهم العالم والناس الذين يتركون العالم دون أن يسمع أحد صوتهم .. أولاد الموت وبنات الحواديت .. الناس الذين نبحث عنهم في الصور لكي نعرفهم والناس الذين يتركون صورهم في كل شئ مروا به أو حتى لم يعرفوه .. الوحدة والقلق وفقدان الإحساس بالقيمة .. الذكريات التي تصنع حياة موازية لحياتنا والبيوت التي تحيا برائحة أصحابها الذين ذهبوا وتركوها.. الوجع المكتوم والآهات المختبئة وراء الشبابيك التي نمر بها كل يوم ونحن عائدون في المساء.. ثمانية وعشرون مكانا اعرف أغلبهم منذ زمن .. ربما لم ترني الرواية في هذه الأماكن شيئا جديدا أو جعلتني أعرف عنها أشياء أكثر مما أعرفه عنها لكنها جعلتني أستشعر هذه الأماكن بشكل مختلف من خلال الشخصيات الـتسعة والثلاثين الموجودين بها ، سواء الذين عاشوا في هذه الأماكن وتحركوا بينها أو الذين لعبوا دورا في حياتهم .. وبالطبع كانت أهمهم البنت " بنت محمد وبهية " صاحبة هذه الحكاية كلها والتي حدث كل شئ من أجلها.. من أحب ومن فارق ومن حلم ومن تزوج ومن طلق ومن سافر ومن ولد ومن مات .. كل الأشياء حدثت من أجل أن تصنع هذه البنت .. وأيضا من أجل أن تصنع جرحها الذي يسكن داخلها.. ربما أيضا ًالأماكن نفسها وجدت من أجلها.. وربما الدنيا . لا أعرف لماذا تذكرت وأنا اكتب الكلمات السابقة ــ وأنتم تعرفون بالطبع أن أشياء كثيرة تحدث دون أن نعرف لماذا ــ حلماً حلمته مرة ( كانت هناك بنتاً أحبها وكان جرحاً للبنت في مكان بجسدها دائماً تداريه وتحرص علي ألا يراه أحد، وفي يوم لمحت عيناي الجرح .. كانت ترتعش وهي ترى عينيا ذاهبة إليه ولا أعرف لماذا أحببت البنت أكثر ألف مرة مما كنت أحبها قبل أن أرى هذا الجرح وكنت كلما نظرت إليه أحبها أكثر وربما أحببت الجرح نفسه ـ أقصد أحببت شكل هذا الجرح ـ وكنت دائما ما أرغب في لمسه وتقبيله .. وأصبحت لا أعرف لماذا أحببتها هكذا بعدما رأيت جرحها . وأنا في حلمي هذا دار في رأسي سؤال " حسناً .. لو انك أحببت شكل الجرح لكونه جرحها هي, لماذا أحببتها هي أكثر لكونها مجروحة ؟) .. في الحقيقة لم أعرف .. لكني اكتشفت بعدها أني لا أستطيع أن أحب الأشياء التي ليس بها جروح، ولا أستمتع برؤية الأشياء المكتملة تماما .. وفسرت بذلك لماذا كان المثالون اليونانيون لا يصنعون تماثيلهم سليمة تماما .. دائما هناك أشياء ناقصة أو مجروحة .. ربما لأنهم يعرفون أن ذلك سيجعلها أجمل أو سيجعلنا نشعر بجمالها أكتر. لقد ظللت اسأل نفسي مندهشاً وأنا أقرأ الرواية .. يااااااه هل كانت هذه البنت هنا طول الوقت ؟.. بجانبك؟ .. تمشي معك في نفس الوقت وفي نفس هذه الشوارع, وتلعب في نفس الأماكن اللي لعبت أنت فيها أو قريباً منها؟.. البنت التي اكتشفت أن هناك أشياء كثيرة فيها تشبهك .. البنت التي لها جذور ساحلية مثلك و المولودة في منتصف شهر يونيو مثلك والتي عاشت في الحدائق مثلك وتحبها مثلك ومن مجاذيبها مثلك والتي اسم أمها ينتهي بنفس الاسمين الذي ينتهي بهم اسم أمك.. البنت التي تكتب القصص مثلك، والتي ضاع منها سنين في تجربة ربما عاشت فيها غريبة مثلك.. البنت التي تعود الآن وحيدة مثلك .. خسارة لم أكن أعرف. ربما لهذا كانت الحدائق مثيرة لك دائما وتحبها دون أن تعرف . الرواية أيضاً لم تقل صراحة لماذا .. ربما لم تحدثني عن " الحدائق" أصلا ولم تقل غير نفس الأسماء اللي رددناها طوال الوقت كعلامات للمكان الذي يشدنا عطره " نحن مجاذيب الحدائق " .. نحن اللذين – تقريبا - مكتوب لنا أن نظل نحبها دون أن نفهم لماذا.. نشم عطرها دون أن نعرف سره .. بالضبط كمجاذيب جامع محمد فرج وكل المجاذيب في أي حضرة .. يشدهم شيء يعشقونه ويدوخوا في سحره حتي يسقطون وهم يرددون اسمه لكنهم أبدا ما عرفوا سره ولن يعرفوه. ربما أنت أيضاً لم يكن لديك ما تقوليه عنها أكثر مما نعرف.. وربما هذا ما كنت تريدين قوله " نحن مجاذيبها وحسب ولا نعرف لماذا" ..و" الحدائق" لم تكن أكثر من مساحة صغيرة خضراء وقصر وبعض الفيلات يوجد مثلها في أماكن كثيرة, وشوارع لها أسماء مثل كل أسماء الشوارع وفيها بشر كسائر البشر في كل الأحياء وأيضاً لها تاريخ لا أحد يذكره .. عزب وغيطان وترع قديمة وفلاحين ومصانع وعمال ومساكن وزوايا وأديرة وكنائس .. أماكن حفرت و أماكن ردمت .. أماكن هدمت و أماكن بنيت كي تشهد علي مرحلة من تاريخنا ماتت أو مرحلة تموت..عمال غارقون في الشقاء وبائعون غلابة .. أناس بسطاء لم يدخلوا يوما ولن يدخلوا الكادر أبدًا.. أناس ربما لا يعرفوا السينما ولم يشاهدوها.. دنيا تشغي داخل حارات ضيقة وأزقة وشقوق.. عشش وبيوت صفيح. أناس كثيرون عاشوا بجوار بعضهم ملتصقين ببعضهم أو قل مكدسون فوق بعضهم لكنهم أغراب عن بعضهم ولم تجمعهم أبدًا صورة ,ربما مرة واحدة رأيتهم متجمعين كما النمل في طوابير طويلة علي امتداد شارع مصر والسودان في اكبر جنازة رئيتها في حياتي .. يوم أن خرجنا لكي نودع رجلًا كنا نحلف باسمه كما نحلف بالله .. رجلًا هو أيضًا ربما لم نعرفه جيدًا ولا حتي عرفه أهلنا كما ينبغي أن يعرفوه لكنهم بكوا جميعهم بحرقة لموته وخرجوا لكي يرددوا اسمه كالمجاذيب وكنا نحن أطفال صغار يومها وكانت الحيرة تملؤنا وربما الخوف وعلي ألسنتنا سؤال واحد هو ماذا سيحدث للحياة وللعالم ولنا بعد ذلك وكيف سنعيش؟.. وكانت المرة الوحيدة اللي رأيت فيها الدموع في عيون أبي الذي مات بعد ذلك وهو يبتسم .. ورأيت النساء ساهرات يبكين وهن يخيطون ملابسهن السوداء التي سيخرجون بها للجنازة في الصباح . لكن في عام 77 لم يكن أحد يحمل كاميرا في شارع مصر والسودان ولم يكن هناك صور لطوابير نمل تسير وهي تنوح رافعة المناديل السوداء .. كان هناك بشر مملوءين بالقلق والخوف يركضون في الشوارع ويصرخون بصوت عال ووجوههم مليئة بالغضب وعساكر تعدوا خلفهم من جامعة عين شمس لميدان العباسية ومن منشية الصدر إلي كوبري القبة يضربونهم بالعصي وبنادق الرش .. أيضًا في 81 لم يكن هناك صور عندما كان العسكر يطلقون النار علي البيوت بعد ما أجهز الناس علي الحجارة بين قضبان ترام العتبة في شارع بورسعيد وأحرقوا بيوت ودكاكين بعضهم البعض .. الناس الذين كنت أراهم من قبل يتبادلون أطباق الحلوى و البسكويت والكعك والحلبة والترمس ويجلسون أمام المنازل في المساء يكسرون معًا عيدان القصب ويصنعون لنا الخواتم والأساور والمراكب والكفوف والصلبان من أعواد السعف ويلونون البيض ويفصصون حبات "الملانة" (الحمص الأخضر) أيام عيد الفطر ووقفة عرفات وشم النسيم و سبت النور وأحد السعف أو الزعف كما كانوا ينطقونها والذين فجأة وجدوا أنفسهم ممسكين بتلابيب بعضهم البعض دون أن يفهموا لماذا علي وجه التحديد. ماذا إذا في الحدائق أكثر لكي نعشقها هكذا ونظل مشدودين لها دائما بهذا الشكل؟ تمنيت أن تقول الرواية لي ذلك لكنها لم تقل وربما كتبت لكي لا تقول ذلك وربما أيضا كتبت لكي تسأل نفس السؤال الذي أردت أنت تجيبه. ولكن من المؤكد أننا لم نعشق " الحدائق" لكون الملك بناها بجوار قصره ولا لكون الباشاوات اتخذوها مسكناً لهم ولا لكونها مليئة بالقصور والفيلات ولا لكونها كانت تظهر كثيرا في الأفلام القديمة ــ أعجبتني كثيراً لعبة السينما .. جاءت جيدة في مناطق كثيرة من الرواية وغير ذلك في مناطق أقل .. أعجبتني رغم عدم ارتياحي لها في البداية ــ من المؤكد أن هذه الأشياء ليست هي أو علي الأقل ليست وحدها التي صنعت " الحدائق" أن هناك أشياء أخرى غير هذه الأشياء لا نعرفها .. ربما أرادت الرواية أن تقول ذلك؟.. ربما؟. هل من الممكن أن تكون الحدائق مجرد مكانا لذكرياتنا مثلها مثل أي مكان آخر عاش فيه الناس وأصبح لديهم فيه ذكريات؟ مكان نتذكر كيف لعبنا فيه ومشينا مع أصحابنا وأحببنا فيه البنات وأحببنا فيه وسرنا فيه ممسكين أيادي بعضنا البعض بجوار سور القصر أو جلسنا في حديقته أمام النافورة ذات السباع التي أزيلت لكي يمر في مكانها جسرا جديدا لهرولة البشر؟ مكان فارقنا فيه أناس نحبهم أو راح منا فيه أناس ماتوا قبل ما أن نشبع منهم؟.. أيمكن أن تكون السينما هي من صنعت كل ذلك ؟ جورج ودولت والريحاني الذين سكنوا هنا؟ .. أو أولاد لاما ومن بعدهم أحمد جلال عندما قاموا ببناء الأستوديو في قلب "الحدائق" ؟ .. أيمكن أن تكون صورها في الأفلام هو ما صنع هذه الأسطورة داخلنا عن "الحدائق" الجميلة والعظيمة التي سكنتنا أكتر ما سكناها؟ التي لا أعرف لماذا هي جميلة وعظيمة ولا لماذا تسكننا هكذا وتشدنا لها دائما هكذا ولا لماذا تجعلنا مجاذيب لها .. هل هي الصور؟.. الصور التي صنعت الرواية الجميلة أيضاً؟ .. هل من المعقول اننا عشنا طول الوقت حكاية هي في الأصل ليست حقيقة ؟ حكاية كلها "سيما سيما؟ " .. عشناها هكذا جميعنا حتى الذين لم يظهروا منا ولن يظهروا في أي صورة ؟ ترى لهذا كان لابد أن لبطلة الرواية أن تمسك بيدها الكاميرا وتقف أمام المشهد الذي ستقوم هي بنفسها بأدائه بعدما ما تختار شخوصه وتحدد لنفسها الكادرات ومين الذي سيظهر ومين يختفي ومن سيبقي أمام العدسة ومن سيقف بعيدا ومن سيكون البطل ومن الكومبارس لكي تستطيع أن توجد وتعيش؟ تعيش ليس كما يعيش الناس ولا كما يجب أن تعيش . لكن كشخصية في فيلم من أفلام السينما لا نستطيع أن نحيا إلا من خلاله باعتبارنا أولاد " الحدائق"؟ .. " ولاد سيما سيما "وكأننا طوال الوقت نقوم بالتمثيل ولو لم نقم بذلك لن نظهر أبدا في الصورة أو سنظهر ونحن نسير هائمين علي وجوهنا وأرواحنا تسبقنا في شوارع " الحدائق " ونحن نغني (غنا المجاذيب)؟
ناصر البدري