حكاية المغني الذي أصبح بغلاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القرية لم تكن تعشق الغناء.. والمغني الوحيد يجلس وحيداً أسفل الشجرة الجرداء أمام كوخه الصغير.. تداعب أنامله الرقيقة أنفاسه العذبة, بينما تعبر جوف نايه الخشبي إلي فضاء القرية – تلك التي لم تكن تعشق الغناء – حاملةً في طياتها نسائم صوته الشجي, تصنع رداءً من الوجع الحلو لحروف أغنيات شاعره الحزين. القرية لم تكن تعشق الغناء.. ولأن المغني الوحيد لم يكن غير ذلك ولا يستطيع سواه, كان المغني فقيرًا, والكوخ الصغير لم يكن يقوى علي مقاومة الريح الباردة التي تهاجم هروبه الليلي من آلام معدته الخاوية للنوم
القرية لم تكن تعشق الغناء.. والمغني الوحيد يجلس وحيداً أسفل الشجرة الجرداء أمام كوخه الصغير.. تداعب أنامله الرقيقة أنفاسه العذبة, بينما تعبر جوف نايه الخشبي إلي فضاء القرية – تلك التي لم تكن تعشق الغناء – حاملةً في طياتها نسائم صوته الشجي, تصنع رداءً من الوجع الحلو لحروف أغنيات شاعره الحزين. القرية لم تكن تعشق الغناء.. ولأن المغني الوحيد لم يكن غير ذلك ولا يستطيع سواه, كان المغني فقيرًا, والكوخ الصغير لم يكن يقوى علي مقاومة الريح الباردة التي تهاجم هروبه الليلي من آلام معدته الخاوية للنوم
يقول الناس : أن البرد قادر
و الجوع كافر
والمغني الفقير فقير ولا يستطيع غير ذلك
في منتصف كل نهار كانت تقطع الجسر الواصل بين طرفي القرية, مارة من أمام كوخه الصغير عربة من نوع " الكارتة" مغطاة بمظلة من الجلد الأسود ولها عجلات كبيرة ملونة بالذهب يجرها " بغل" يدّعي صاحبه الذي يقوم بتقديم نفسه علي أنه صاحب هذه القرية تقريبًا " فلي معظم أراضيها وأكبر منازلها " يقول ذلك وهو يشير بإصبعه ناحية غرب البلدة, حيث المنزل الضخم القابع وسط غابة كبيرة من الأشجار في قلب مساحة خضراء شاسعة " ومعظم أهلها من الفلاحين يعملون لدي .. علاوة علي مجموعة كبيرة من الخدم " ثم يضيف " وهذان " مشيرًا إلي العربة والبغل " إنه استرالي من سلالة أصيلة ونادرة
لم يستطع مقاومة العرض.. كان مغريًا بالنسبة لشخص في مثل حالته أن يمتلك أكثر من ثوب, ويأكل ثلاث وجبات كاملة, وينام علي سرير من الزان المغطي بمراتب القطن, ويتدثر بغطاء من الصوف في قلب حجرة مصنوعة من الحجر تطل شرفتها الكبيرة علي حدائق الموز
ومنذ ذلك اليوم كان الرجل الذي اعتاد تقديم نفسه من خلال ممتلكاته, يضيف إلي الأرض والبيت والفلاحين والخدم والعربة والبغل.. " مغنيًا
لم يمكنه اعتياد العيش الجديد من التراجع عندما أدرك أن الغناء لم يكن بالنسبة للرجل بالأمر الحيوي, وأن عليه منذ الآن القيام بعمل آخر يراه معادلاً لبقائه في المنزل إن أراد هو ذلك, ومنذ هذه اللحظة كان عليه القيام بمراعاة شئون البغل
في الصباح يحمل "جردل" الماء والصابون وقطعة كبيرة من ليف النخيل ليزيل آثار التمرغ الليلي من علي جلده السميك.. وبعد أن يعيد ترتيب الإسطبل, يحمل علي ظهره إلي حجرة الحطب الكيس الكبير بعد أن يجمع فيه أعواد الخضرة اليابسة وبقايا العلف الموحول .. يملأ حوض التبن بالتبن وحوض الماء بالماء .. ثم يقوم بتجهيز السرج وتعليق البغل في العربة, وعندما يعود من رحلته اليومية, يكون هو أيضًا قد عاد من جولته في الحقول المجاورة حاملاً علي ظهره حزم البرسيم وأعواد الذرة
كان التراب يغطي سطح الناي الملقي بجوار حوض الماء .. تملأ جوفه حبات التبن, عندما التقطه البغل بفمه ومضغه قاطعًا بأسنانه الحادة آخر حبال الصبر التي كان يتعلق بها متأرجحًا بين رغبته القوية في التحرر وعدم قدرة نفسه البائسة علي المغامرة
منذ ذلك اليوم الذي وجه فيه فوهة غيظه المكتوم ناحية البغل فأذهبه ضحية صراع لم يكن هو طرفًا فيه .. اعتاد أهل القرية علي رؤيته عند منتصف كل نهار وهو يسير علي يديه وقدميه قاطعًا الجسر الفاصل بين طرفي القرية مارًا من أمام كوخه الصغير ساحبًا ورائه العربة ذات العجلات الكبيرة الملونة بالذهب
مجلة الثقافة الجديدة- العدد 70 - سبتمبر1993
جريدة الحياة اللندنية – 24/8/1994