برد النيل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حاملا ذرات تاريخه الطويل وموزعها علي زجاج نوافذ ومصابيح المباني المصفوفة علي ضفتيه، كان الهواء العابر فوق صفحة النهر القابـــع في حزن من خانــــه الزمن، يجتر ذكرى النخيل ومراكب الشمس، يأتي باردًا ومحملاً بالرذاذ الثقيل، يسقط علي الجسد العاري فيسد مسام الجلد ببقع الزيت، مارًا بالمسافة بين قدمي تمثال "سعد باشا زغلول" وأحد الوحوش القابعة علي جانبي كوبري قصر النيل، حيث كان واقفًا يبحث عن متكأ للنفس المتخمة بالمرارة.. عيناه مثقلتان بالدمع، وخيط من صدا العمر يثقب القلب فتفجر الروح بداخله ساخنًة، ملهبًة جسده النحيل، فيندفع الدم إلي الرأس، يرسم في العينين دوائر حمراء تتشابك والبني العالق فيها من خشب "الدبشك" مشكلةً لوحات الوجع الكوني ترفعها علي الرؤوس عرائس الموت القادمة من كل الشوارع، يسرن في طابورٍ طويل بخطى رتيبة صوب النهر، يرددن نشيدًا من الحزن، صانعات من لحظة الفناء لحنًا سرمديًا يمتد صداه ليتردد بين جدران البيوت الصغيرة في أرجاء المدن والقرى حيث الأحباء النائمون قلقًا يتقلبون علي فراش الكابوس، في حين يجلس هو وحيدًا ومنكسرًا علي قطعة من الخشب اللين، يقرأ عبارات الذكرى السوداء ويعد خيوط حساب الزمن الأسود بين تواريخ الدخول والخروج علي جير طلاء شكائر الرمل التي تصنع جدران غرفة حبسه الضيقة _ مترًا مربعًا مقطوعًا من جسد الصحراء العاري، تجرحه أظافر الجنود المصلوبين علي الرمل في انتظار أوامر الخلاص _ بعد أن دسته فيها يد السجان وانصرفت.. بينما سلمى وقبل لحظات من اغتصابها علي أيدي جنود الحراسة، ترقب متنقلًة في حذر ملهوف أشباح الظلام في محاولة يائسة لاكتشاف مصيره بعد أن قبضوا عليه متلبسًا بخبزها